الجدل العلثي

الجدل العبثي

لا يكفي أن يحصل المرء  على شهادات جامعية ليصبح مثقفا،  فبعض الجامعيين يتوقف عطاؤه الذهني عندما يناقش رسالة تخرجه وبعضهم ينحرف كثيرا عن روح المعرفة فيطوع ملكاته المعرفية التي تحصل عليها لتحريف الحقائق أو بذر الشقاق والفتنة بين الناس أو التعرض لأمور تافهة لا تفيده ولا تفيد غيره ومضرة عامة للجميع.
المثقف هو من يوظف ما تحصل عليه من علوم وما مر به من تجارب من أجل  أن يفهم مشاكل مجتمعه ، أن يعرف أسبابها فيبحث عن حلول تعالجها ويعرضها للمناقشة والتدبر بين أصحاب الرأي و أهل المشورة.....ويبدأ بنفسه في تجسيد مشروعه.
من بين المثقفين من قد يختار العمل السياسي الحزبي ومنهم من قد ينشط في هيآت المجتمع المدني ومنهم من قد يفضل المساهمة بجهده الفردي ولكن لا يمكن أن يكون من بينهم من يدعو المجتمع ليلتهي عن همومه الحياتية وعن مستقبله بالغوص في خبايا تافهة لا تنتج غير الفرقة وتجافي القلوب.

للأسف الشديد يشهد هذا الفضاء التفاعلي سقوطا مخيفا للنخب الوطنية وحوارا أقرب ما يكون للجنون بحثا عن معرفة من هم العرب سلالة ؟ ومن هم العرب المتعربون ؟ ولماذا تعربوا ؟  وكيف ؟ ومتى ؟ وأين كانت أول أيام ملحمة التناسخ بين الهويتين الأصلية والحاضرة !!!!!!

فما الذي سيفيد هذا الشعب إن تغلب فريق من هؤلاء على الآخر ؟ وهل من آلية يملكها أحدهم أو غيرهم قد تحسم الجدل الدائر بينهم ؟ وهل لم يعد لهذا الشعب من هموم غير أن يعرف عربه كيف تعربوا ولماذا !!!!!
أقوال العقلاء مصونة عن العبث وهذا هو العبث بذاته ولكنه عبث خطير ومدمر لنسيج المجتمع وكيان الأمة.
إن أهل هذه البلاد مسلمون جميعا ومؤمنون جميعا ولا يجوز لأحدهم أن يتجاوز ما ثبت- بحكم عدم وجود رواية تنفيه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع حين قال: "ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم  وإنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي...."  
الفرنسيون أمة قوية حديثة النشأة نسبيا ، فأول كلمة فرنسية منطوقة لها معنى مميٌِز لم تسبق القرن التاسع الميلادي  والهوية الثقافية للأمة الفرنسية ما كان لها وجود قبل "افرانسوا الأول"  في القرن السادس عشر.
لكن هذه الأمة التي توحدت حول لغة جامعة تتشكل غالبيتها الساحقة من أصول جرمانية ولا أحدا اليوم في فرنسا يبكي على ماضيه الجرماني فقد تكونت هوية عامة على أساس لغة جامعة فتميزت الأمة الفرنسية عن غيرها.

في الطرف الآخر من نهر المانش يعيش الإنجليز في دولة كانت ذات يوم إمبراطورية عظيمة وما تزال لغتها لغة التعامل الأولى في العالم رغم أن هذه اللغة الناظمة لم يكن لها وجود هي الأخرى قبل القرن السادس عشر.

في هذه الجزيرة تشكلت الهوية الإنجليزية من فصائل ثلاثة : "الأنجلوساكسون " خليط أغلبيته من شعوب جرمانية اسكندنافية  (فايكينغ) وأقلية انجليزية فتشكل ما يعرف اليوم ب"الأنجلوساكسون" الذين ينتسب إليهم نصف سكان البلاد.
وقد شهدت البلاد هجرة أخرى بدوافع مغايرة وبعناوين مختلفة عن ما كانت علية غزوات "الفايكينغ" جاءت هذه المرة من فرنسا وكان هؤلاء المهاجرون يعرفون ب"الأنجلو-نورومانه" وينتسب إليهم اليوم  ربع السكان.

أما الربع الأخير فيتشكل من أقوام من سلالات لاتينية وهؤلاء الأقوام الثلاثة كلهم اليوم انجليز يتحدون حول اللغة الانجليزية ولا أحدهم أقرب لها من الآخر ولا أحدهم يدعي أنه أرسخ في البلاد من غيره.....

ما يدور حاليا حول أصول مجتمع البيظان يذكر بقصة عراقيين شيعي وسني تشاجرا في لندن فتدخلت الشرطة وأحالتهما للعدالة.

استنطقهما القاضي فقال أحدهما إن الثاني سب الحسين فرد الآخر بالنفي فسأل القاضي أين الحسين هذا  فقال له الشيعي إنه استشهد في كربلاء  منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا ، سكت القاضي ، تشاور القضاة وصدر الحكم أن يحال الطرفان لمصحة الأمراض النفسية.....

أرجو من نخبنا ومثقفينا أن يرحموا هذا الشعب الذي يئن تحت وطأة الفقر والجهل والجوع والمرض والتخلف وتتربص بهويته دول ومنظمات وتنظيمات وأفراد تسعى جميعها لدق اسفين الخلافات والتشكيك بين مكونات مكونه العربي فينتصر علينا أعداؤنا من دون حرب.

محمد ولد الراظي